) النطق بالمحاب :
و كما تقتضي الأخوة السكوت عن المكاره ، تقتضي أيضا
النطق بالمحاب ، بل هو أخص بالأخوة ، لأن من قنع بالسكوت صحب أهل القبور
1-
التودد باللسان :
فمن ذلك أن يتودد إليه بلسانه ، و يتفقده في الأحوال
التي يحب أن يتفقد فيها ، و كذا جملة أحواله التي يسر بها ينبغي أن يظهر
بلسانه مشاركته له في السرور بها ، فمعنى الأخوة المساهمة في السراء و
الضراء
2- إخباره بمحبته :
و من ذلك أن يخبره بمحبته له : عن
أنس بن مالك قال : مر رجل بالنبي صلى الله عليه و سلم و عنده ناس ، فقال
رجل ممن عنده : إني لأحب هذا لله ، فقال النبي صلى الله عليه و سلم
:"أعلمته؟" قال : لا ، قال : " قم إليه فأعلمه " فقام إليه فأعلمه ، فقال :
أحبّك الذي أحببتني له ثم قال ، ثم رجع فسأله النبي صلى الله عليه و سلم
فأخبره بما قال فقال النبي صلى الله عليه و سلم :"أنت مع من أحببت ، و لك
ما احتسبت " (رواه أحمد و الحاكم و صححه الذهبي)
و عن المقدام بن
معدى كرب عن النبي صلى الله عليه و سلم قال :" إذا أحب الرجل أخاه فليخبره
أنه يحبه " (رواه أحمد و غيره)
و إنما أمر النبي صلى الله عليه و
سلم بالإخبار ، لأن ذلك يوجب زيادة حب ، فإن عرف أنك تحبه أحبك بالطبع لا
محالة ، فإذا عرفت أنه أيضا يحبك زاد حبك لا محالة ، فإذا عرفت أنه أيضا
يحبك زاد حبك لا محالة ، فلا يزال الحب يتزايد من الجانبين و يتضاعف ، و
التحابب بين المسلمين مطلوب في الشرع محبوب في الدين ، قال النبي صلى الله
عليه و سلم : " لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ، و لا تؤمنوا حتى تحابوا ، ألا
أدلكم على شيء إذا
فعلتموه تحاببتم ، أفشوا السلام بينكم " ( رواه
مسلم ، و قال النووي : قوله :" لا تؤمنوا حتى تحابوا " معناه لا يكمل
إيمانكم ، و لا يصلح حالكم في الإيمان إلا بالتحاب "
3- دعوته
بأحبّ الأسماء إليه :
و من ذلك أن يدعوه بأحبّ أسمائه إليه في غيبته و
حضوره ، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ثلاث يصفين لك ودّ أخيك : أن
تسلّم عليه إذا لقيته أولا ، و توسّع له في المجلس ، و تدعوه بأحب الأسماء
إليه
4- الثناء عليه :
و من ذلك : أن تثني عليه بما تعرف من
محاسن أحواله و آكد من ذلك أن تبلغه ثناء من أثنى عليه ، مع إظهار الفرح ،
فإن إخفاء ذلك محض الحسد ، و ذلك من غير كذب و لا إفراط ، فإن ذلك من أعظم
الأسباب في جلب المحبة
5- الذّبّ عنه في غيبته :
و أعظم من ذلك
تأثيرا في جلب المحبة ، الذبّ عنه في غيبته مهما قصد بسوء أو تعرّض لعرضه
بكلام صريح ، أو تعريض ، فحق الأخوة التشمير في الحماية و النصرة و تبكيت
المتعنت و تغليظ القول عليه ، و السكوت عن ذلك موغر للصدر و منفر للقلب ، و
تقصير في حق الأخوة
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " المسلم أخو
المسلم ، لا يظلمه و لا يحرمه و لا يخذله " (رواه مسلم)
6-
التعليم و النصيحة :
و من ذلك التعليم و النصيحة : قال رسول الله صلى
الله عليه و سلم :" الدين النصيحة قالوا لمن يا رسول الله ، قال : " لله و
لكتابه ، و لرسوله ، و لأئمة المسلمين و عامتهم " (رواه مسلم) ، و بخاصة
إذا استنصح الأخ أخاه وجب عليه أن يخلص له النصيحة ، كما سلف في الحقوق
العامة للمسلمين ، و ينبغي أن تكون النصيحة في سرّ لا يطلع عليه أحد فما
كان على الملإ فهو توبيخ و فضيحة ، و ما كان في السر ، فهو شفقة و نصيحة
قال
الشافعي رحمه الله : من وعظ أخاه سرا فقد نصحه و زانه ، و من وعظه علانية
فقد فضحه و شانه و قال رحمه الله :
:
تعمّدني بنصحك في انفرادي ***
و جنّبني النصيحة في الجماعة
فإنّ النصح بين الناس نوع *** من التوبيخ
لا أرضى استماعه
و إن خالفتني و عصيت قولي *** فلا تجزع إذا لم تعط
طاعة
و تتأكد النصيحة كذلك إذا تغيّر أخوك عما كان عليه من العمل
الصالح
قال أبو الدرداء : إذا تغيّر أخوك ، و حال عما كان عليه ،
فلا تدعه لأجل ذلك ، فإن أخاك يعوج مرة و يستقيم مرة ، و حكى عن أخوين من
السلف انقلب أحدهما عن الاستقامة ، فقيل لأخيه : ألا تقطعه و تهجره؟ فقال:
أحوج ما كان إليّ في هذا الوقت لما وقع في عثرته أن آخذ بيده ،و أتلطف له
في المعاتبة، و أدعو له بالعود إلى ما كان عليه
و الأخوة عقد ينزل
منزلة القرابة ، فإذا انعقد تأكد الحق ووجب الوفاء بموجب العقد ، و من
الوفاء به أن لا يهمل أخاه أيام حاجته و فقره ، و فقر الدين أشدّ من فقر
المال ، و الأخوة عند النائبات و حوادث الزمان ، و هذا من أشدّ النوائب
و
القريب ينبغي أن لا يهجر من أجل معصيته ، حتى يقام له بواجب النصيحة ، و
ذلك لأجل قرابته ، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم في عشيرته : "
فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون " ( الشعراء 216)
و لم يقل : إني
برئ منكم ، مراعاة لحق القرابة و لحمة النسب ، و لهذا أشار أبو الدرداء لما
قيل له : ألا تبغض أخاك و قد فعل كذا؟ فقال : إنما أبغض عمله و إلا فهو
أخي
و كذا التفريق بين الأحباب من محاب الشيطان ، كما أن مقارفة
العصيان من محابه ، فإذا حصل للشيطان أحد غرضيه ، فلا ينبغي أن يضاف إليه
الثاني
7- الدعاء له في حياته و بعد مماته :
و من ذلك الدعاء
لأخيه في حياته و بعد مماته :
عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى
الله عليه و سلم : " ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال الملك :
و لك بمثل (رواه مسلم)
قال النووي رحمه الله : في هذا فضل الدعاء
لأخيه المسلم بظهر الغيب ، و لو دعا لجماعة من المسلمين حصلت هذه الفضيلة ،
و لو دعا لجملة من المسلمين فالظاهر حصولها أيضا ، و كان بعض السلف إذا
أراد أن يدعو لنفسه يدعو لأخيه المسلم بتلك الدعوة ، لأنها تستجاب و يحصل
له مثلها ، جاء في تاريخ بغداد للخطيب البغدادي في ترجمة الطيب إسماعيل أبي
حمدون –أحد القراء المشهورين – قال : كان لأبي حمدون صحيفة فيها مكتوب
ثلاثمائة من أصدقائه و كان يدعو لهم كل ليلة ، فتركهم ليلة فنام ، فقيل له
في نومه يا أبا حمدون : لِمَ لَمْ تسرج مصابيحك الليلة ، قال : فقعد فأسرج ،
و أخذ الصحيفة فدعا لواحد واحد حتى فرغ
4) حقوق الأخوة في القلب :
من حق المسلم على أخيه في الله عز و جل الوفاء و الإخلاص في محبته و
صحبته ، و علامة ذلك أن تدوم المحبة ، و أن يجزع من الفراق ، و من حقه أن
تحسن به الظن ، و أن تحمل كلامه و تصرفاته على أطيب ما يكون ، و من ذلك أن
لا يكلف أخاه التواضع له ، و التفقد لأحواله ، و القيام بحقوقه
1)
الوفاء و الإخلاص :
و معنى الوفاء الثبات على الحب و إدامته إلى الموت
معه ، و بعد الموت مع أولاده و أصدقائه ، فإنّ الحبّ في الله إنما يراد به
ما عند الله عزّ و جلّ ، فلا ينتهي بموت أخيه
قال بعضهم : قليل الوفاء
بعد الوفاة ، خير من كثيره في حال الحياة ..
و قد جاء أنّ رسول الله
صلى الله عليه و سلم أكرم عجوزا أدخلت عليه فقيل له في ذلك ، فقال :"إنها
كانت تأتينا أيام خديجة ، و إنّ حسن العهد من الإيمان"(صححه الحاكم و
الذهبي و حسنه الألباني في الضعيفة)
- و من الوفاء للأخ مراعاة جميع
أصدقائه و أقاربه و المتعلقين به
-و من الوفاء:أن لا يتغيّر حاله مع
أخيه ، و إن ارتفع شأنه واتّسعت ولايته و عظم جاهه
قال بعضهم :
إنّ
الكرام إذا ما أيسروا ذكروا *** من كان يألفهم في المنزل الخشن
و
أوصى بعض السلف ابنه فقال له : يا بنيّ لا تصحب من الناس ، إلا من إذا
افتقرت إليه قرب منك ، و إذا استغنيت عنه لم يطمع فيك ، و إن علت مرتبته لم
يرتفع عليك و مهما انقطع الوفاء بدوام المحبة ، شمت به الشيطان ، فإنه لا
يحسد متعاونين على بر ،كما يحسد متواخيين في الله و متحابين فيه ، فإنه
يجهد نفسه لإفساد ما بينهما ، قال تعالى :" و قل لعبادي يقولوا التي هي
أحسن إنّ الشيطان ينزغ بينهم " ( الإسراء 53)
قال بعضهم : ما تواخى
اثنان في الله فتفرّق بينهما ، إلا بذنب يرتكبه أحدهما
و كان بشر يقول
: إذا قصر العبد في طاعة الله ، سلبه الله من يؤنسه ، و ذلك لأنّ الإخوان
مسلاة الهموم و عون على الدين
و لذلك قال ابن المبارك : ألذّ الأشياء
مجالسة الإخوان ، و الانقلاب إلى كفاية
و من آثار الصدق و الإخلاص و
تمام الوفاء ، أن تكون شديد الجزع من المفارقة ، نفور الطبع عن أسبابها ،
كما قيل :
وجدت مصيبات الزمان جميعها *** سوى فرقةِ الأحبابِ هيّنةَ
الخَطْب
و أنشد ابن عُيينة هذا البيت و قال : لقد عهدت أقواما
فارقتهم منذ ثلاثين سنة ، ما يخيّل إليّ أن حسرتهم ذهبت من قلبي
- و من
الوفاء أن لا يسمع بلاغات عن صديقه
- و من الوفاء أن لا يصادق عدو
صديقه : قال الشافعي رحمه الله : إذا أطاع صديقك عدوك ، فقد اشتركا في
عداوتك
2) حسن الظنّ :
و من حقوق الأخوة حسن الظنّ بأخيه :
قال
الله تعالى"يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظنّ فإنّ بعد الظنّ
إثم"(الحجرات 12)
و قال النبي صلى الله عليه و سلم : "إياكم و الظنّ
فإنّ الظنّ أكذب الحديث " ( رواه الشيخان) ، و إذا كان هذا مطلوب في
المسلمين عامة ، فيتأكّد ذلك بين المتآخين في الله عزّ و جلّ و من مناقب
الإمام الشافعي ما قاله أحد تلامذته عنه الربيع بن سليمان قال : " دخلت على
الشافعي و هو مريض فقلت له :قوى الله ضعفك ، فقال : لو قوى ضعفي قتلني ،
فقلت : والله ما أردت إلا الخير ، قال : أعلم أنك لو شتمتني لم ترد إلا
الخير "
فينبغي أن يحمل كلام الإخوان على أحسن معانيه ، و أن لا يظن
بالإخوان إلا خيرا ، فإن سوء الظن غيبة القلب
3) التواضع :
و
من حقوق الأخوة القلبية أن يتواضع لإخوانه ، و يسيء الظن بنفسه فإذا رآهم
خيرا من نفسه يكون هو خيرا منهم
قال أبو معاوية الأسود : إخواني كلهم
خير مني ، قيل و كيف ذلك؟ قال : كلهم يرى لي الفضل عليه ، و من فضلني على
نفسه فهو خير مني
و مهما رأى الفضل لنفسه فقد احتقر أخاه ، و هذا في
عموم المسلمين مذموم ، قال صلى الله عليه و سلم : " بحسب امرئ من الشّرّ أن
يحقر أخاه المسلم " (رواه الشيخان)